كانت كركوك (كان، بحسب قواعد اللغة العربية، فعل ناقص يدل على الماضي)، إحدى أبرز المدن العصرية في العراق. هذه المدينة سارعت الخطى نحو العصرنة بفعل تدفق النفط من آبارها. الموقع الجغرافي للمدينة وهي تتوسط صنوتيها (أربيل من الشمال والسليمانية من الشرق)، فضلا عن الثقافة التعددية فيها، منح كركوك خصوصية وحيوية نادرة، فيما لو قدر لها النمو والتطور بشكل طبيعي، لكانت كركوك الآن في عداد امهات المدن في الشرق الأوسط.
قدر كركوك الذي جعلها هدفا لتقاطع الايديولوجيات والمشاريع السياسية ضمن صراع مؤدلج على حسم هويتها، كان بمثابة الفخ القاتل الذي أجهز على جميع عوامل وديناميكيات النمو والتطور في المدينة، وجعل مستقبلها مرهونا بحسابات جبرية تفرض من خارج بيئتها الاجتماعية والثقافية. وقد تبلورت بسبب ذلك آليات قسرية، كانت السبب في شل حركة النمو الطبيعية للمدينة وأدخلت في نسيجها المدني والاجتماعي، عناصر زجت عنوة في بنيتها البشرية، كانت تأثيراتها في غاية السلبية على نمو وتطور المدينة، رافقها اكتساح وازاحة البنية الثقافية الاصيلة للمدينة، وتجميد طاقات وقدرات البناء وآليات التطور والارتقاء الذاتية للمدينة وسكانها، من دون طرح أو زج بديل قادر على تولي زمام المبادرة.
كل هذه العوامل دفعت المدينة الى نوع من الخمول الذي أدى الى ضمور عوامل النمو الذاتية فيها، تلك العوامل المرتبطة بالطاقات البشرية المحلية الخلاقة التي تعمل بروح من الحس الوطني والمديني، وضمن نطاق المصلحة الشخصية للأفراد ودوافعهم الذاتية، من أجل تطوير المدينة ورقيها. وهذه اجمالا عوامل ايجابية وهي الضمان لأي مدينة في العالم. ولعل كبح مرتكزات النمو والتطور في كركوك كان بسبب سياسات السلطات التي تركت مستقبل المدينة رهينة تصورات ورؤى ايديولوجية غير متوافقة مع التكوين البشري والتراثي والثقافي للمدينة. أي ان الشلل الذي نال من روح التطور والارتقاء في المدينة وجمد الطاقات الخلاقة لسكانها، لم يكن نتيجة قصور ذاتي، بل حصل بسبب عامل خارجي دخيل.
مع إن كركوك عاشت خلال العقود الاول لتأسيس الدولة العراقية، بدايات موفقة ضمن مسار العصرنة، لكن هذا المسار المثمر اصيب تاليا بانتكاسة كبرى منذ نصف قرن. وبذلك فقد أربكت هذه الانتكاسة مسيرة العصرنة في هذه المدينة المهمة والحيوية. وعاشت كركوك نصف قرن خارج الزمان ولم تساير خطى النمو والتطور التي أخذت تتسارع عالميا ممتدة خارج جغرافيتنا لتشمل وتعم كافة آفاق الحياة.
ومن باب المقاربة النسبية نقول، نهضت دولة خليجية كالامارات العربية المتحدة خلال أقل من نصف قرن مضى، وارتدت حلة العصرنة بإحدى أبهى صورها، في حين تراجعت كركوك خلال هذه المدة بشكل استثنائي لا يتوقعه القادمون اليها من الغرباء. من المعهود ان منطق الحضارة يسير وفق معادلة النمو المستدام أو معادلة سلبية معاكسة للاولى يمكن ان نطلق عليها التراجع المستمر. وليس هناك معادلة تتوسطهما، أي لا يمكن لأي مدينة أن تحافظ على وضعها الحالي وتركن الى الجمود، بل لا خيار سوى التقدم والنمو والتطور أو التراجع والجمود والانحطاط. هذا هو منطق الحضارة بالضبط. وكان نصيب كركوك طوال العقود الماضية التراجع المستدام. أي يمكننا القول بكل اطمئنان، إن الوضع العمراني والواقع الحضاري ومستوى و نمط الحياة المدنية و الخدمات العامة وخط الرفاه في المدينة حاليا، أدنى بدرجات مما كان عليه قبل نصف قرن. واقع مرير تماما، لكنه الحقيقة من دون زيف أو ادعاء.
إذن، كيف السبيل الى نفض الغبار وبلوغ مستوى جديد من الرقي يليق بهذه المدينة العريقة؟
التوصل الى إجابة عن هذا السؤال ليس أمراً سهلا، لأن حيثيات الاجابة عليه تفتح أبواب العديد من المجالات التي لا يلم بتفاصيلها الا المتخصصون. وهؤلاء لا بد وان يقوموا باجراء أبحاث ودراسات معمقة عن واقع المدينة والعوامل التي أدت الى تراجعه، مع التركيز على تفعيل عناصر النمو وديناميكيات العمل والانجاز. صحيح ان الجانب المالي مهم من حيث دعم المشاريع وتمكين المبادرات واسناد الطاقات الابداعية وتفعيل الايدي العاملة وتحسين الأداء وضمان فرص العمل والبناء والنمو، الا ان المال لا يحقق الاهداف المنتظرة ما لم يتم العمل بموجب خطط وبرامج علمية تأخد بالحسبان جميع العناصر الساندة للنمو والدفع باتجاه العصرنة واستعراض المعوقات المتوقعة. والأهم من كل ذلك هو حسم وانهاء الصراع على هوية المدينة.
تستطيع كركوك الاستفادة من تجربتي أربيل والسليمانية في التنمية، فهاتان المدينتان هما بمثابة صنوين لكركوك، ولهما الخلفية التاريخية نفسها كمدن ضمن نطاق الدولة العراقية، الا ان هاتين المدينتين استطاعتا خلال أقل من عقدين تقديم تجربتين ناجحتين، واستطاعتا انجاز خطوات مهمة نحو العصرنة والتحديث. والواقع الحضري والعمراني والمديني لهاتين المدينتين بات غير قابل للمقاربة والمقارنة مع واقع كركوك.
هذا الكلام لا ينفي حقيقة مهمة، وهي ان كركوك عاشت مرحلة من الانتعاش النسبي منذ عام 2003 تسارعت خطاها عاما بعد عام، الا ان الازمة المالية التي عصفت بالعراق، جمدت حركة النمو المتسارعة في كركوك خلال هذه المدة. والعامل الذي يجعل تحديث كركوك أكثر صعوبة وأبعد منالا ومكلفا أيضا، هو تأخر العملية وتوسع المدينة في ظل واقع معاشي صعب لسكانها. فكلما كان مستوى دخل الفرد عاليا، كلما كانت فرص التقدم افقيا واسعة وشاملة. لأن العصرنة لا يمكن تحقيقها من دون تضافر جهود ومشاريع ومبادرات القطاعين العام والخاص. العصرنة والتحديث عملية شاملة ومتكاملة يساهم في تحقيقها كل القطاعات والشرائح، ومهما كان للسلطات من دور محوري في قيادة عملية النمو والتطور، فأن المجهود العريض لكافة قطاعات وشرائح السكان له الدور الحاسم في انجاز التحديث. لأن هذه العملية تأخذ مدى واسعا حينما تتحول الى آليات تشاركية من قبل الجميع في حركة تصاعدية تنموية ذات صبغة شمولية تشمل جميع مرافق الحياة وكافة مفاصل المدينة. فهي تشمل جغرافيتها وبنيتها بالكامل.
من المفيد الاشارة الى حقيقة مهمة، وهي ان الاوضاع السابقة للمدينة وصورتها التخيلية التي باتت رهنا للماضي، لا يمكن اعادتها الى سابق حالها، فظرفا الزمكان يأتيان بعوامل ومعطيات قاهرة ومغايرة في كل آن وزمان مهما طال أو قصر. لذا من المهم اتخاذ تدابير جديدة وفق معطيات واقع الحال. وهنا بودي الاشارة الى مبادرة طيبة عقدت بمشاركة عدة أطراف حول التحرك باتجاه تحريك ملف قلعة كركوك وقبولها ضمن قائمة التراث العالمي. البادرة طيبة بالتأكيد، وهي تعبير صادق عن نيات عمل وتحريك ملف راكد وسعي لإبراز قضية حيوية ظلت في حالة تهيمش قاتلة. مع هذا ومن باب التذكير نقول، بإن مشروع إحياء قلعة كركوك وإدراجها ضمن التراث العالمي (الانساني)، مشروع كبير يتطلب عملا واسعا وجهودا متواصلة. والمشروع أصلا يعاني من عقبة كبيرة جدا، وهي حالة تدمير المعالم العمرانية فيها خلال العقد الأخير من القرن الماضي من قبل السلطات العراقية السابقة. وهذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي، أو أن ينتابنا اليأس حيال أصل المشروع. إن المهمة قابلة للتحقيق، وهو حلم واقعي له ما يسنده، لأن القلعة هي في النهاية معلم حضاري كبير وسجل إنساني حافل يضم بين ثناياه آثار ومعالم أكثر من ثلاثة آلاف عام من الحضارة والعطاء الانساني المثمر، و آثار وبقايا الصراعات والغزوات التي تعرضت لها القلعة (المدينة) ايضا ومخلفات الانماط الحضارية وآثار توالي الأمم والاثنيات على أديمها.
كركوك مدينة هرمة، قلب المدينة مازال يعد من أبرز معالمها وملامحها، وقلبها يتشكل من مجموعة من الأحياء القديمة المحيطة بالقلعة على جانبي نهير خاصه. هذه الاحياء تحيط بشكل بيضوي أو شبه دائري بالقلعة، بدءا من الشمال الشرقي وانتهاء بالشمال الغربي (آزادي، امام قاسم، برتكية، بلاخ، بيريادي، جقور، مصلى، قورية، شاطرلو وبكلر). وجميع هذه الاحياء (ينقسم بعضها الى أحياء صغيرة بتسميات عدة ضمن اسم جامع) هي أحياء تراثية، طرازها المعماري محلي بحت. الهندسة المعمارية وطراز ريازة المباني في هذه الاحياء ذو خصوصية، وهي امتداد طبيعي (حضاري وحضري) لمباني القلعة من حيث مواد البناء والريازة. الكثير من مباني هذه الاحياء قد تداعت أو تم هدمها حيث أعاد أصحابها بناؤها وفق الطرز الغربية الحديثة. وهكذا نكون أمام حالة من ضياع الهوية الحضارية والحضرية للمدينة. ولا حيلة في الأمر، لأن السلطات المعنية عاجزة عن استملاك الدور والمباني، والمستملك منها للدولة محدود جدا لا يشكل نسبة تذكر من اجمالي جغرافية المباني بل الاحياء التراثية في كركوك.
ومن خلال النظر الى قلب كركوك كأبرز معالم هوية المدينة، يحس المرء بأنه أمام مدينة هرمة عجزت من حيث العمران عن مسايرة ركب التحضر والتقدم. طوبوغرافيا المدينة تظهر معالم ثلاثة مشاهد حضرية وعمرانية. رغم وجود تداخل بين هذه المعالم، الا انه يمكن تحديد دوائر ومساحات ذات سمات واضحة ومميزة لكل منها. أولى هذه المعالم هي دائرة قلب كركوك التي سبق الاشارة اليها، حيث نجد مساحة واسعة من الاحياء القديمة التي يتداخل فيها الطراز المعماري التراثي والطراز المعماري الحديث، والأول في تراجع مستمر أمام زحف الثاني. والثانية هي أحياء الطبقة الوسطى التي هي ليست تراثية وليست حديثة تماما، وتشكل هذه الاحياء الاغلبية العظمى من أحياء المدينة، ونجد ان هذه الاحياء أخذت تطعم بمبان من الطراز الحديث، خصوصا بعد عام 2003. والاحياء التي يمكن أن نطلق عليها الحديثة، فهي تشغل مساحة محدودة، وموزعة في جغرافية متفرقة، أغلبها يقع في الشطر الغربي من المدينة، وبشكل أخص في الجهات الجنوبية من هذا الشطر، مع نماذج لا بأس بها في مناطق مختلفة من شطري المدينة.
ومن المهم الاشارة الى حالة عمرانية رابعة بدأت تتضح معالمها في السنين الأخيرة بعد العمل بقانون الاستثمار، حيث نجد أحياء جديدة موحدة البناء أخذت تظهر في ضواحي المدينة، خصوصا بمحاذاة السلسلة الجبلية المحيطة بالمدينة من الشرق باتجاه الشمال.
كركوك مدينة من حيث طوبوغرافيا العمران افقية، المعمار العمودي لا وجود له في المدينة. فالمدينة التي ربما يبلغ العدد التخميني لسكانها (900) ألف نسمة، تمتد على مساحة واسعة من الارض باسطة أطرافها باتجاه الضواحي.