طارق كاريزي: علم كردستان في كركوك

طارق كاريزي: علم كردستان في كركوك

اعتبر البعض من الكردستانيين رفع علم كردستان رسميا في كركوك يوم 28/3/2017 اجراء تأخر تنفيذه، وفي نفس الوقت ارتفعت اصوات عدد قليل من الكردستانيين (خصوصا من غير الكرد) معلنة اعتراضها على رفع علم كردستان رسميا في كركوك، وحجتهم في ذلك كون علم كردستان لا يحمل رمزا يمثلهم، فيما طالب مجلس النواب العراقي (البرلمان) في جلسته ليوم 1/4/2017 بعدم رفع أي علم آخر في كركوك غير العلم العراقي. لمناقشة بعض جوانب هذه المسألة، يأتي مقالنا هذا.

علم كردستان هو رمز للسيادة الكردستانية التي يرفضها العديد من الاطراف الداخلية والخارجية من الجوار الاقليمي. ردة فعل هذا الرفض للسيادة الكردستانية يقابلها رفض كردستاني مقابل لسيادة الغير (ويعرف الكردستانيون هذا الغير بمحتلي أرض كردستان) على أرض بلادهم. الرفض والرفض المضاد يولدان اشكالات انسانية عميقة، يستحيل معهما تحقيق الامن والسلم والتعايش البنّاء. والدليل هو تواصل النضال التحرري الكردستاني والقمع المضاد من قبل محتلي أرض كردستان طوال قرنين من الزمان، انه سجل زمني لتأريخ صراع عبثي يدفع الطرفان ضريبته ولا نهاية له من دون الرسو عند مرافئ الحل السلمي العادل.

بعبارة أوضح نقول، عدم تحقق السيادة الكردستانية وفق ما يرتأيه الكردستانيون قد ولّد صراعات مريرة يبدو انها لا تهدأ من دون التوصل الى ابرام واقرار عقود سياسية تضمن العدالة والمساواة وتحقق السيادة على الارض لجميع مكونات الشرق الاوسط، وتنهي حالات الاحتلال والقهر والعيش القسري بين المكونات الاثنية لهذه الجغرافية القلقة داخل كيانات رسمت القوى الاستعمارية حدودها وفق تصوراتها ومصالحها واجنداتها، وذلك عقب الحرب العالمية الاولى.

علم كردستان رمز آيقوني للسيادة الكردستانية المسلوبة عنوة. صحيح ان تأريخ نشوء هذا العلم قد اختطه الكرد باعتبارهم المكون الابرز في كردستان، لكن المكونات الكردستانية الاخرى (العرب، التركمان، الكلدان السريان الاشوريين، الاذربيجانيين، الارمن، الاتراك، الفرس، اليهود وغيرهم) هم جزء أصيل من المجتمع الكردستاني وقد انخرط الكثيرين منهم في النضال التحريري الكردستاني، وهم غير مستعدين للانسلاخ من هوية موطنهم كردستان، بل هم جميعا متمسكون بأرض كردستان باعتبارها موطنهم.

طيب أين الاشكالية اذا؟

باعتقادي ان الهوية الكردستانية بحكم مصادرتها واقصائها تحت شروط الاحتلال من قبل دول الجوار الكردستاني، باتت هوية غير مختمرة قانونيا ودستوريا، اي انها ظلت هوية افتراضية غير متحققة على أرض الواقع. ما يعني ان غياب الهوية الكردستانية على أرض الواقع المعاش، فتح الباب واسعا أمام تقبل الهويات البديلة التي فرضتها الجغرافية السياسية التي تبلورت عقب الحرب العالمية الاولى وبعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت بمثابة العنوان والهوية الجامعة للمواطنين في الارجاء المترامية للامبراطورية المذكورة التي امتدت سيادتها في آسيا واوربا وافريقيا.

غياب الهوية الكردستانية ورموزها السيادية والآيقونية طوال القرن الماضي، انتج حالة من الاغتراب الهوياتي لدى بعض المكونات الكردستانية، فيما رسم الكردستانيون الذين انخرطوا في النضال السياسي والنضال المسلح ضد محتلي أرض كردستان، صورة نظرية مشرقة للسيادة الكردستانية وسعوا بكل ما امتلكوا من قدرات لتطبيق رؤيتهم الافتراضية للسيادة الكردستانية على أرض الواقع.

 الرفض الشديد المقرون بالقهر والعنف المفرط من قبل سلطات الدول التي تقتسم الجغرافية الكردستانية للمطالبات الكردية/ الكردستانية لتحقيق أوسع قدر من السيادة لكردستان وشعبها، القى الكثير من الظلال المعتمة على الواقع الكردستاني، وقد وظف محتلو أرض كردستان ومقتسمو جغرافيتها وناهبو ثرواتها كل الوسائل السياسية والدبلوماسية والاعلامية والاقتصادية لتشويه حقيقة الوجود الكردي والمطاليب الكردستانية. وبعد كل هذا الجهد الهدام الذي ناور ويناور دوما في الباطل ويعادي الحقيقة والواقع ويعتمد المغالطة القانونية والحقوقية، باتت الهوية الكردستانية هوية غير واضحة شبحية تثير الشكوك والظنون حول فحواها ومدياتها الانسانية والاجتماعية والثقافية وابعادها الجيوسياسية.

انطلاقا من المسلّمات المشار اليها اعلاه، اضحت الكثير من المكونات الكردستانية تحس بنوع من الاغتراب حيال هوية كردستانية ظلت افتراضية محصورة في سياقات سياسية نضالية ضيّقة لم تستطع احتواء التعددية الاثنية في كردستان تماما. من هنا فليس غريبا خروج شريحة من الكردستانيين التركمان في كركوك للتظاهر ضد رفع علم كردستان في المباني الحكومية للمدينة، وقد كانت مطاليبهم واضحة تماما: علم كردستان لا يوحي برمز محدد بهم كمكون كردستاني، اضافة الى مطالبتهم برفع علم تركماني الى جانب علم العراق وعلم كردستان في كركوك. مثل هذه المطاليب عادلة من حيث المبدأ، حيث هناك نسبة من أحدى المكونات الكردستانية مازال لديها شعور بالاغتراب حيال علم كردستان الذي لا تشعر بانه يمثلها ويعرب عن سيادتها.

باعتقادي، ان هذا الامر يحتاج لنقاشات هادئة واعمال ومواقف بناءة، توضح حقيقة علم كردستان بأنه ليس علم لمكون كردستاني واحد فقط، بل انه علم الكردستانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والمذهبية. وهذا العلم ليس صنيعة الاحزاب الكردستانية، بل ولد من رحم النضال التحرري الكردستاني الذي طالب بالعدل والمساواة لشعب كردستان من دون استثناء. ولعل قيادة النضال الكردستاني من قبل الكرد أمر طبيعي، كون الكرد يشكلون الاغلبية الساحقة (75%) من اجمالي سكان كردستان الكبرى، وبالتالي فان ثقلهم البشري هو الذي رشحهم لتبني النضال الكردستاني. وهذا لا يعني ان الكردستانيين من ابناء المكونات الاخرى قد تأخروا عن اداء الواجب، أو ان شرف النضال الكردستاني وثماره ستكون حصرا على الكرد فقط، لأن السيادة الكردستانية سيرفل بشكل تلقائي تحت ظلالها الكردستانيون جميعا، وبالتالي فان من حق الكردستانيين على اختلاف اطيافهم الاثنية الاحتفاء والافتخار بمآثر النضال الكردستاني، وأيضا تبني رموزه وتراثه.

من المهم الاشارة هنا الى ان كركوك لم تكن في أي من الايام بعيدة عن النضال التحرري الكردستاني، بل ان هذه المدينة الكردستانية واهلها كانوا دوما في صلب وصميم النضال التحرري الكردستاني، وقافلة شهداء هذه المدينة تقدم الدليل اليقين على عمق جذور الانتماء الكردستاني لها. فقد شهدت هذه المدينة ميلاد النشيد الوطني الكردستاني حيث كتب الشاعر الكردي دلدار نص (أي رقيب) في كركوك ووضع المنور الكردي الشهيد حسين برزنجي في اربعينيات القرن الماضي لحن النشيد الوطني الكردستاني في هذه المدينة. وهذا الحدث يحمل في طياته دلالات وطنية عميقة توضح مديات وعمق الهوية الكردستانية في كركوك. واحتضنت هذه المدينة كبار السياسيين من جميع الاحزاب الكردستانية في جنوب كردستان، ورفد سكان كركوك جميع القوى والاحزاب الكردستانية بخيرة الكوادر السياسية والتنظيمية والبيشمركة الشجعان.

علاوة على ما سلف، فان علم كردستان ليس غريبا في كركوك. هذا العلم كان موجودا ومحفوظا في أماكن أمينة في العديد من منازل اسر هذه المدينة، وكان منقوشا في شغاف قلب الشطر الاعظم من الكردستانيين من ابناءها. ورفع علم كردستان أثناء تحرير المدينة عام 1991 فوق مقرات الحزب الاشتراكي الكردي، وكذلك فان علم كردستان كان مرفوعا من قبل قوات البيشمركة التي دخلت كركوك كجزء من التحالف الدولي عام 2003، ومنذ ذلك التأريخ فان علم كردستان ظل ومازال مرفوعا في مئات المقرات والمكاتب السياسية والمنظماتية وفي الساحات والشوارع والطرقات والمباني الخاصة. اضافة الى ان علم كردستان مرفوع في مباني أكثر من 500 مدرسة كردية في محافظة كركوك. واقرار رفع علم كردستان من قبل مجلس محافظة كركوك جاء كتحصيل حاصل، خصوصا وان الحكومة العراقية قد تملصت عن التزامها الدستوري بتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الذي أقر خارطة طريق لرسم حدود اقليم كردستان العراق وحسم مسألة الاراضي والمناطق المتنازعة عليها، والذي كانت الحكومة العراقية ملزمة حتى نهاية عام 2007 بتنفيذ كافة فقرات ومراحل المادة 140 من الدستور (التطبيع، الاحصاء، الاستفتاء).

للتذكير نقول، بأن ابناء كركوك بجميع أطيافهم كانوا محرومين من حقوق المواطنة، وقد دفع الكردستانيون (خصوصا الكرد والتركمان) من ابناء هذه المدينة غاليا ضريبة انتماءاتهم الاثنية، حيث مارست السلطات العراقية (خصوصا ابان حقبة البعث) التمييز ضدهم وصادرت اراضيهم ودمرت قراهم وبلداتهم وهجرتهم من المدينة قسريا، وفحوى المادة 140 من الدستور يدعم تعرض الكرد والتركمان في كركوك لسياسات القهر والتمييز ومصادرة الحقوق والاملاك والممتلكات. هذه المادة الدستورية التي اقرّ بنودها بعد سجالات طويلة ودفاع مستميت من قبل قيادة الاحزاب الكردستانية اثناء كتابة الدستور العراقي، نجد البعض يعاديها عن جهل لابعادها الانسانية والحقوقية.

وللحقيقة نقول فان الكردستانيين من عرب كركوك ايضا تعرضوا للتمييز لصالح العرب الوافدين من خارج كركوك، حيث حصرت السلطات العراقية (بالذات اثناء حقبة حكم البعث 1968- 2003) الامتيازات والحقوق بالوافدين من العرب العراقيين الذين تم تسهيل عمليات اسكانهم واستيطانهم وفق مخططات التعريب التي رصدت لها السلطات العراقية طوال عقود متواصلة مبالغ طائلة من الموازنة العامة في مسعى منها لسلخ ومصادرة الهوية الكردستانية لكركوك.

الحكومة العراقية الحالية تتهرب كسابقاتها عن حل مسألة كركوك وتدرك تماما الهوية الكردستانية لهذه المدينة، لهذا تماطلت وتملصت عن تنفيذ بنود المادة 140 من الدستور الخاصة بكركوك وباقي المناطق الكردستانية (التي جاءت بعنوان المتنازع عليها دستوريا). حكومة البعث قدمت عرض تقسيم كركوك الى شطرين، شرقي يتبع كردستان وغربي يتبع بغداد، وفي ذلك فذلكة وشطارة كون منابع النفط تقع في غرب وجنوب المحافظة.

العراقيون العرب خاضوا ومازالوا بعد سقوط نظام البعث حربا بينية تحت يافطة المذهب، وهم متخاصمون في كل شيء الا في معاداتهم للكرد وكردستان، حيث توصلوا يوم 1/4/2017 بالاجماع الى رفض رفع علم كردستان في دوائر كركوك الرسمية. العلم الايراني يرفرف في شوارع بغداد وكربلاء والنجف وعدد آخر من المحافظات العراقية، لا ضير في ذلك، لكن علم كردستان يرفع في مدينة كردستانية قحة، لا! اي كيل بمكيالين هذا؟ رفع علم ايران خارج المؤسسات والممثليات الدبلوماسية الايرانية يعد خرقا للسيادة العراقية، وهذا الخرق مسكوت عنه لغاية في نفس يعقوب، أما رفع علم كردستان الذي هو علم وطني، فقد اثار زوبعة من الاعتراضات غير الدستورية.

علم كردستان هو علم الجميع، وكركوك ليست المدينة الكردستانية الوحيدة التي يعيش فيها طيف من المكونات الاثنية، والتعددية الاثنية لكركوك لا يلغي ولا يصادر حقيقة هويتها الوطنية الكردستانية، مثلما التنوع الاثني في اي مدينة في العالم لا يلغي هويتها الوطنية. رفع علم كردستان في كركوك أمر في غاية الطبيعية، بل مصادرة حق رفعه عنوة طوال العقود الماضية كان بهدف مصادرة الهوية الكردستانية لهذه المدينة العتيدة، ولم يجني أبناء كركوك من وراء مصادرة الهوية الوطنية لمدينتهم خيرا، ورفع العلم الوطني الكردستاني سيكون فاتحة خير ورخاء لابناء هذه المدينة المحرومة والمظلومة.

علم كردستان علم وطني عراقي مرفوع في اقليم كردستان وفي بغداد ورفع في البصرة وصلاح الدين والانبار ونينوى وديالى. علم كردستان معلم قانوني ودستوري بموازاة العلم العراقي، يعزز احدهما الاخر. علم كردستان رفع في كركوك منذ أكثر من ربع قرن، والمئات منه مرفوعة في كركوك منذ عام 2003، ورفعه حاليا فوق المباني الرسمية في كركوك فاتحة خير وبدء عصر جديد من الود والرخاء، وهو عنوان سيادة لجميع الكردستانيين من سكان كركوك على اختلاف اطيافهم الاثنية ومرجعياتهم الثقافية. وخير دليل على ذلك فان القوات التي دافعت عن كركوك ضد الغزو الداعشي الاسود واستطاعت بما قدمته من تضحيات جسيمة، حماية المدينة وسكانها من مآسي وكوارث تنظيم في غاية التطرف والغلو، هذه القوات دافعت عن كركوك وهي تحمل علم كردستان. وهل هنالك شرف يفوق شرف الاستشهاد دفاعا عن الارض واهلها. كركوك مدينة كردستانية وسكانها بلا استثناء كردستانيون بامتياز ومن حق الجميع التمتع بكافة الحقوق القانونية وحقوق المواطنة. فاهلا بعلم كردستان في كركوك مدينة التآخي.

Rojava News 

Mobile  Application