عمر كوجري: القيادي الكردي واستحقاقات الثقافة والتثقيف

عمر كوجري: القيادي الكردي واستحقاقات الثقافة والتثقيف

ظهر أول حزب كردي في كوردستان سوريا، حزيران العام 1957 على يد مجموعة من الشباب المتشرّب من الحس القومي، وفي زمن تنامي الوعي القومي في المنطقة، رغم الانتشار الواضح للحركة الشيوعية ونجاحها في الاتحاد السوفييتي سابقاً وتطبيق هذه التجربة بشكل حرفي في عدد من البلدان الاشتراكية، فانخرط عدد لا بأس به من الشباب الكردي في الحركة الشيوعية.

 

بعدها، حدثت تشظيات حزبية كثيرة في جسد الحزب الوليد الأم، وكانت في غالبها الأعم، بلا أية مبررات سياسية، أو ليست لها علاقة بنظام أو برنامج داخلي مغاير للحزب المنشق عنه الحزب الجديد. والطريف أن الكثير من هذه الأحزاب ظلت ولسنوات تقضي جل “نضالها” في مقولة “نحن شرعيون، والطرف الآخر غير شرعي، معنا أغلبية قيادات وكوادر الحزب وقواعده. أما البقية “المنشقة”  فهم شرذمة من الفوضيين، وضعاف النفوس، ومجموعة صغيرة تائهة، لا أثر لها في الشارع الكردي، وضمن الحركة السياسية الكردية.

                                   

بدأت الحركة السياسية الكردية بداية قوية، كان قوامها وعمودها الفقري متشكلاً من خيرة الشباب الكردي المثقف والواعي، أمثال المثقف والسياسي محمد علي خوجة، الذي استشهد في سجون النظام السوري العام 1965، والشاعر والسياسي أوصمان صبري، ورشيد حمو وحميد درويش. لكن مسار الحزب، كما أسلفنا، مال إلى شهية الكرد في سوريا للانشقاقات، والتناسلات والتشظيّات غير المبررة.

 

فحينما تشكل الحزب- النواة من النخبة الثقافية الكردية أمثال الدكتور نورالدين ظاظا الذي نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من سويسرا، وترشح للانتخابات البرلمانية عام 1961 إلا أن واقع كثرة أعداد الأحزاب الكردية في سوريا، فرض واقعاً جديداً مؤلماً، وسيدفع الشعب الكردي في كوردستان سوريا فيما بعد الثمن باهظاً، حينما وصل إلى مواقع متقدمة أناس أشباه أميين، وفي أحايين  كثيرة أميون لا يفكون الأحرف، ولا يجيدون أية لغة، حتى لغتهم الكردية يتقنونها شفاهاً. لذا  شاعت في الشارع الكردي الشعبي، وحتى النخبوي، نكتة تبعث على الألم والفجيعة في آن، وهي أن أول سكرتير حزب سياسي كردي كان يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وآخر سكرتير حزب سياسي كردي أمي، أو في أحسن الأحوال يحمل شهادة السرتفيكا من الكتاتيب.

 

لأن الواقع الجديد فرض هيمنته على تفكير هؤلاء القياديين الجدد، ووصول الكثير منهم الى مواقع سياسية بسبب الصراعات الحزبية والحزازات اللامبررة غير المفيدة، وبسبب عدم توفر آليات كردية تقوّم دور هذا القيادي الكردي أو ذاك بطريقة منهجية صحيحة، صار كل من قاد اجتماعاً حزبياً أو أدار ندوة تنظيمية أو جماهيرية في قرية نائية يسمّي نفسه ” السياسي – المثقف”، حتى أن العديد منهم كانوا يحصرون قراءاتهم و”فتوحاتهم الثقافية” في الاكتفاء بقراءة المنشور الحزبي الرديء. والبعض منهم كادوا أن يقرؤوا هذه المناشير مقلوبة الصفحات. بل بالغ بعضهم في غيهم، فنصبوا الشراك الكثيرة للايقاع بالمثقف الكردي وإبعاده عن تخوم الحركة السياسية الكردية، والنظر اليه على  الدوام والتشكيك بقدراته المعرفية والادعاء بأنه جبان، وغير متفاعل مع “نظريات حزبه”!!، ولا يمكن أن يكون فاعلاً ضمن جسم الحركة السياسية الكردية. وبادر هذا الحزبي أو القيادي “الدّعي” إلى سلب المثقف الكردي من كل مقومات القوة، وتجريده من أسلحة التطور في أحيان كثيرة. وهو لم يعرف أنه بذلك يمثل وبرداءة فظة دور المثقف “الوطواط” بحسب تعبير الفيلسوف أحمد برقاوي، فكانوا بحسب قوله مثل “الوطواط مجبول بماء الكره الفاسد. فهو يكره المعرفة والعلم والوعي العلمي، وينشر كلاماً عن خرافة العلم. وهذا أمر طبيعي إذ كيف للوطواط أن يتحمل نور العلم والمعرفة؟ المثقف الوطواط يمدح لكنه معلم في الشتيمة. وهو لا يدري أن شتيمته لإنسان ما هو إلا المدح بعينه”.

 

الأسباب عديد في إحجام السياسي أو القيادي الكردي عن النهل من معين الثقافة، وتنمية المعارف، والانغماس في العمق المعرفي والفكري والفلسفي. منها ما هي متعلقة بشخصه، ومنها ما هي متعلقة بالوضع الذي كبّله النظام فيه، ورسم له السقف الاعلى للتحرك والانطلاق. فلم يستطع السفر، وتغيير طبيعة حياته، والتنميط في نواح كثيرة، ومحاربة تلاقح الأفكار عبر النقاشات والدخول في معترك التثقيف، بشكل طوعي لا زجري وقسري.

 

من جهة، لم يشعر السياسي الكردي أنه ضمن بيئة تفترض عليه التفكير بتغيير مفهوم حياته السياسية، وتغذيتها بالمعارف والعلوم، وإعطاء البعد الثقافي الأهمية التي يجب أن ينالها أي كائن مشتغل في الحقل السياسي. فجلُّ الجماهير التي كان السياسي الكردي ينشط بينها ويريد إقناعها بـ”نظريات وأفكار وعبقريات حزبه” كانوا من أهل القرى الذين لم يكن في نيتهم الانبهار بقدرات السياسي الكردي. وحتى النشاط داخل المدن الكردية كان عملاً لم ينبنِ على محبة وتفان للعمل السياسي، أو للشخص الذي يمارس “فعل” السياسة. ولهذا السبب، ظل هذا السياسي أسير النزعة التي لا ترى في الثقافة إلا شيئاً فائضاً عن الحاجة، ولا طائل لها، طالما أن مساحة عمله محصورة في الوسط الذي لا يعير اهتماماً بالثقافة. وبدلاً من أن ينزع السياسي الكردي للثقافة، وينحاز لها، انغمس حدّ الضياع في الوضع التنظيمي، وفشل فيه أيضاً. واهتم بمتابعة مشاكل الرفاق الحزبيين التي لم تكن تنتهي. وانحصر عمله في مراضاة الرفاق. حتى أن بعضهم ذهب بعيداً في أحبولات المؤامرات ضد بعض الرفاق الحزبيين النشيطين، وصار يتزعم التكتلات، ويديرها، وكل همه إسقاط المتميزين، وإنجاح الفاشلين، ليكونوا صوته في أي محفل رسمي حزبي كالمؤتمر، إضافة للحالة المزرية اقتصادياً للكثير من السوريين، ومنهم عائلات السياسيين الكرد، وعدم توفر فرص العيش” الكريم”.

 

الأمر الآخر، أن الكثير من القيادات الكردية في كوردستان سوريا لم تكن تملك التحصيل الجامعي، رغم أن الشهادة الجامعية لا تبيح لحاملها الأخذ بأسباب الثقافة، بيد أنها قد تفتح مناخات خصبة للتفكير بموضوعة “التثقيف الذاتي”.

 

ويمكن القول: إن معظم الاحزاب الكردية تعاني من شحّ واضح في عدد وحجم الجامعيين. في المقابل، يمارس السياسة ضمن بعض الأحزاب ممن يحملون الشهادات العالية، وبعض هؤلاء الاكاديميين يدير فرقتهم رفيق شبه أمي، لهذا يُؤثِر هؤلاء الابتعاد عن العمل الحزبي.

 

وسبب آخر يتكثف، ويتبدّى في أن الحريات في سوريا ومنذ ستينيات القرن الماضي للآن ظلت مقموعة، وأن النظام يحارب كل مثقف متنور في أي مكان كان. ونال السياسي الكردي من هذه السياسة المرسومة بعناية في إبعاد الناس عن الحدث السوري، وإجبارهم على الانضمام إلى صفوف حزب البعث الذي فرّخ في الكثير من الأحيان شخصيات سادية مريضة مستبدة ومستعدة لممارسة القتل إن لزم الامر في سبيل أن يظل الرئيس الأوحد إلى “آخر الدهر”.!!

 

لب المشكلة أن السياسي الكردي لم يجد أن الظروف الذاتية المتمثلة في تقصيره، وقصوره كان أكبر وأكثر من الظروف الخارجية. وكان من الممكن أن يفكر في تطوير ذاته، وإثراء ذائقته الثقافية بفيض القراءات والمطالعات. لهذا بات السياسي الكردي مثار سخرية واستهزاء الآخرين. وبات السؤال عن عدد الكتب التي ألفها الساسة الكرد في كوردستان سوريا في حقول السياسة والفكر والفلسفة، مثار التشفي والهزء. وباتت كل المسوغات التي يسوقها هذا السياسي في خانة اللامشروعية، وتهرباً من مكاشفة الذات، ووضع المساحيق أمام بثور الجهل والأمية في مختلف ضروب الحياة، ومنها الحقل السياسي.

Rojava News 

Mobile  Application