1:03:56 PM
ساعات مفعمة بالحماس والتوتر والتوقعات تفصلنا عن موعد استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق، وهو الموعد الذي ينتظره الكرد في جميع الأماكن بفارغ الصبر، وبحماس لافت، يجسّد رغبتهم في وضع حدٍ للظلم المزمن الذي تعرضوا، ويتعرضون، له منذ أكثر من قرن. فمع انتهاء الحرب الكونية الأولى، سعى الكرد كغيرهم من شعوب المنطقة من أجل الحصول على استقلالهم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم، والاستفادة من ثروات بلادهم لمصلحة سائر سكانها من جميع المكونات. ولكن المصالح الاستعمارية من جهة، والايديولوجيات القوموية التي كانت قد هيمنت على عقول قيادات شعوب المنطقة من جهة ثانية، حرمت بتقاطعها وتفاعلها الكرد من حقهم المشروع، وجزأتهم بين أربعة دول مختلفة الثقافات واللغات والمصالح ومستوى التطور المجتمعي، ولكنها رغم خلافاتها اتفقت على منع الكرد من الحصول استقلالهم.
لقد قدّم الكرد من التضحيات والعذابات والقرابين ما يعادل أضعاف أضعاف ضريبة أي استقلال. ولكن مع ذلك خضعوا لظلم يتمرد على أي توصيف، حتى باتت محنة الكردي جزءاً من المألوف اليومي “الطبيعي” في ذهنية شعوب المنطقة؛ بل إن قسماً من معشر الكرد أنفسهم تماهى مع الايديولوجيات التمييزية التي جاهدت من أجل إلغاء الوجود الكردي في الأذهان على الأقل، ما لم يكن في مقدورها الغاؤه في الأعيان.
و لايُنكر هنا أن الخلافات الكردية- الكردية قد ساعدت مضطهديهم كثيراً، ومكّنتهم من إخضاع الكرد لتحويلهم إلى ميدان لتنفيذ واشباع كل العقد القوموية. وكان الجهل عدو الكرد الأساسي. فبفعل هذا الجهل لم يتمكنوا من تنظيم أنفسهم كما ينبغي، ولم يتمكنوا من قراءة توجهات السياسات الدولية والإقليمية ومتغيراتها. وانشغلوا بخلافات وتباينات بينية ثانوية هامشية، في حين كان العالم منشغلاً بكيفية تقسيم بلادهم، والهيمنة على ثرواتهم لا سيما النفطية والمائية منها.
غير أن الأوضاع تغيّرت بفضل اصرار الكرد على حقهم، وبفعل التضحيات الجسام التي قدموها على مدى مائة عام. فهم يمتلكون اليوم المؤسسات السياسية التعليمية والتربوية والاقتصادية والعسكرية الدفاعية والأمنية. ولديهم اتصالات وعلاقات دبلوماسية مع جميع أنحاء العالم. كما أن ابناءهم يتقنون لغات شعوب الأرض جميعها، ويمتلكون خبرة وافية بمصالحها ونفسياتها وطريقة التعامل معها. ولدى الكرد قيادة أثبتت التجارب حكمتها وبعد نظرها، كما أكدت مصداقيتها وشجاعتها واخلاصها، وحرصها على ترجمة الأقوال واقعاً معاشاً على الأرض.
لم يتركب الكرد المجازر ضد أحد، ولم يعتدوا على أحد. ولم. كما أنهم لم يمارسوا الإرهاب قط، بل اثبتوا جدارتهم في ميدان مكافحة الإرهاب الداعشي وغيره، ودافعوا ببسالة عن أرضهم وعرضهم وأبنائهم، وحافظوا على تراثهم ولغتهم وهويتهم. وفي جيمع الأحوال كانوا يعملون من أجل بناء أفضل العلاقات مع شعوب المنطقة على قاعدة الاحترام المتبادل، والاعتراف بالخصوصيات والحقوق.
سيحدد الكرد في خطوتهم المنتظرة باهتمام وترقب من القريب والبعيد، ومعهم كل مكونات الإقليم، موقفهم من مستقبل العلاقة مع بغداد المغلوبة على أمرها نتيجة التحكّم الإيراني بكل المفاصل، هذا التحكّم الذي تمثّل في واقع مذهبي مقيت، أنهك العراق والعراقيين بكل انتماءاتهم.
والأمر الذي يستوقف دائما، هو أن الحدود لا تصبح مقدسة إلا حينما يتصل الموضوع بالحق الكردي. فالاتحاد السوفياتي تفكك، وروسيا انقسمت على ذاتها، وكذلك الاتحاد اليوغسلافي. وقد تشكلت دول جديدة في آسيا وأوروباوأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وأعلنت بعض الجزر النائية نفسها دولاً، وتعامل الجميع مع كل ذلك على أساس أنه أمر طبيعي، ينسجم مع ضرورة احترام حقوق الشعوب وتطلعاتها.
أما الكرد، فالكل يتعامل معهم وكأنهم مجرد حشد من القاصرين، غيرالمدركين لطبيعة قضيتهم، وماهية مصالحهم، لذلك ترى الجميع مرشداً، ناصحياً، مجاملاً بكل ما هو روّاع مضلّل، فارغ من أي محتوى.
وفي هذا السياق يُشار إلى بيان مجلس الأمن الأخير الذي عبر عن قلقه من موضوع الاستفتاء ودعا إلى تأجليه، وفتح باب الحوار مع بغداد، والمحافظة على وحدة العراق. فهذا البيان لا يحتوي على أية ضمانات لشعب كردستان، وهو بيان عام لا يقدم ولا يؤخر،وهو يتناقض مع المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الشعوب والإنسان، كل ما هنالك أنع يعكس مصالح الذين كانوا وارء إصداره. لذلك لا ينبغي التوقف عنده طويلاً، بل لا بد من الاستمرار في قرار الاستفتاء واجرائه، فحقوق الشعوب لا يقررها أولئك المتضررين منها.
الضغوطات التي تتعرض لها قيادة الإقليم هي من كل الجهات، وكذلك هي التهديدات. ولكن الموقف الموحد المتماسك على المستويين الشعبي والسياسي بين سائر مكونات الإقليم هو وحده الضامن لنجاح عملية الاستفتاء، والاستعداد للمرحلة المقبلة التي لن تكون هي الأخرى سهلة، وستشهد الكثير من التحديات.
ولكن رغم كل شيء، تصر قيادة الإقليم على الاحتفاظ بافضل العلاقات مع الدول والشعوب الصديقة والجارة، على أساس التزام الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل طرف، ومنح الاعتبارلوقائع التاريخ والجغرافيا والثقافة والمصالح المشتركة.
لن يكون الإقليم، مهما كانت نتائج الاستفتاء وتبعاته سوى عامل استقرار في المنطقة، وسيكون باستمرار واحة التفاعل والتعايش بين جميع المكونات القومية منها والدينية والمذهبية، وبين مختلف التوجهات السياسية مع احترام خصوصيات وحقوق الجميع. وقد أثبتت مدة ربع قرنمن الحكم نضج التجربة الكردستانية، وأهليتها للبناء عليها، والاستفادة منها لصالح شعوب المنطقة بأسرها، خاصة من جهة احترام حقوق المكونات وخصوصياتها.
الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية الكردستانية مدعوة لتجاوز عقلياتها وحساباتها الحزبية والشللية، والتعامل مع الموقف بعقلية وحسابات رجالات الدولة. فالمرحلة مصيرية، والتحديات جسام وجدية. ولكن الموقف الموحد المسؤول الحكيم قادر على التعامل مع كل المتغيرات والمفاجآت والتهديدات، بالأسلوب المناسب وفي الوقت المناسب.
ساعات ، قليلة تفصلنا عن موعد الاستفتاء التاريخي الذي سيعبر من خلاله سكان الإقليم بكل حرية ورغبة عن رأيهم في مستقبلهم، وهو حق مشروع لا يشكك فيه سوى من أعمته المصالح والمواقف الأيديولوجية الوحيد الاتجاه.
ليكن يوم الاستفتاء يوم عرس وطني حقيقي، يجسدالوفاء لذكرى الشهداء ودموع وعذابات الثكالى والأرامل واليتامى، يوم يؤكد الكرد فيه، ومعهم كل المكونات الكردستانية الشريكة، رغبتهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، مع المحافظة على أفضل العلاقات مع الشعب العراقي وشعوب المنطقة كلها، بعيدا من الاستبداد والإرهاب، وسياسات التحكم بالمصائر والإرادات.
م. nlk-s